ظاهرة انقطاع عِناية العلماء بسماع بعض الكتب وتسمِيعها، وأثر ذلك في وقوع الأغلاط بنُسخ الكتاب

مقالات حديثية
بواسطة Admin منذ 6 سنوات


ظاهرة انقطاع عِناية العلماء بسماع بعض الكتب وتسمِيعها، وأثر ذلك في وقوع الأغلاط بنُسخ الكتاب

محمود النحال أبو شذا


الحمد لله وحده، وبعد:

فإن أكابر العلماء من أهل الرواية اشترطوا في سماع الكُتب وروايتها أن لا تُرْوَى من صَحِيفة لم تُقْرَأ، ولا بُدَّ أن يكُون الكتابُ بخط المؤلِّف الرَّاوي لهُ، أو مقروءًا عليه، أو على مَن قرأ عليه، وهلُمَّ جَرَّا، إلى أن يَصِل إلى أحد شِيوخ نفسه ممن يَرْوِي هُو عنه، وإن لم يكن كذلك فأقل مراتبه أن يكون مُقابَلًا بأصلٍ.

وأن يُحْتَرَز من الغَلَط والتَّصْحيف والزَّلَل والتَّحْريف في الأسانيد والمتون، لكن إن كانت النُّسخة مَضْبُوطةً بخطِّ بعض الْمُعْتَمَدِين من الْحُفَّاظ الرَّاوين لهُ فَبِهَا ونِعْمَت، وإلَّا فلا بُدَّ أن يكون القارئُ أو الْمُسْمع أو بعض الحاضرين عارفًا بأسماء الرِّجَال، والجرح والتَّعديل، وعِلْم العربية، وتصرُّفات اللُّغة، كيلا يَقَع غلطٌ في شيءٍ من ذلكَ([1]).

والنَّاس مختلفون في إتقان هذا الباب اختلافًا يتبايَن، ولأهل الأندلس فيه يدٌ ليست لغيرهم، وكان إمامُ وقتِه الحافظ أبو علي الجيَّاني من أتقن النَّاس بالكتب، وأضبطهم لها، وأَقْوَمِهِم لحروفها، وأَفْرَسِهم ببيان مُشْكِل أسانيدها ومتونها، وأعانَه على ذلك ما كان عنده من الأدب، وإتقانُه ما احتاج إليه من ذلك على شيخه الشيخ أبى مروان ابن سِراج اللغوي آخر أئمة هذا الشَّأن، وصُحْبَتُه للحافظ أبي عُمر بن عبدالبر النمري آخر أئمة الأندلس في الحديث، وأَخْذُه عنه، وتقييدُه عليه، وكثرةُ مطالعته، ناهيك عن إتقانه لكتابه الذي ألَّفه على مُشْكِل رجال الصَّحيحين.

وكان قرينُه وكَنِيُّه القاضي الشَّهيد أبو علي الصَّدَفِي عارفًا بما يجب من ذلك جدًّا، لكنه لم يَهْتَبِلْ بكتبه اهتبالَه، وكان القاضي أبو الوليد الكناني ممن أتقن، ربما تكلَّف في الإصلاح والتَّقويم بعض ما نُعِيَ عليه([2]).

ومع تطاوُل الزَّمان ضَعُفَ أمر السُّلطان واستيلاء ذَوِي العبث والفساد على أهل تلك البلاد انقرض الكثير من الكتب الجليلة التي كان يجب أن يكثر بها النُّسَخ، ويتنافس فِيها أهل العلم، ويكتبوها لأنفسهم، ويُخَلِّدها أحرارُهم، ولا أحسب المانع من ذلك إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد لمحل العلم وفضله، وزهدِهم فيه ورغبتهم عنه، وعدم بصيرتهم به([3]).

وفي أثناء تَعْدَاد الجبرتي للكثير من أسماء الكُتب المصنَّفة في التَّواريخ أثناء خطبة «العجائب» قال: «هذه صارت أسماء من غير مُسَمَّيَات، فإنَّا لم نرَ من ذلك كله إلا بعض أجزاء مُدَشَّتَة بَقِيَتْ ببعض خزائن كُتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصحافين، وباعها القَوَمَةُ والْمُبَاشِرِينَ، ونُقِلَت إلى بلاد المغرب والسُّودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفِتَن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم»([4]).

وصار العديد من الكتب نُسَخُهُ الْخَطِّيَّةُ عزيزة الوجود، والكُثير منها مغلوط لعدم اتصاله بالسَّمَاع، ولم يكثر بها النُّسَخ؛ فوصلنا منها نُسَخٌّ مغلوطة وبها نقص، وأنا أذكر من ذلك شيئًا يُستدلُ به على ما بعده:

فهذا الزَّين العراقي (ت806هـ) يقول على نُسَخ «المعجم الأوسط» لأبي القاسم الطبراني (ت360هـ) عقب التَّعليق على رواية “أبي سعد الأطول أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم”:

«رواه الطَّبراني في «الأوسط»، فقال: “إن أباه مات”، فيحتمل أنه غلطٌ من النُّسَّاخ، فإنَّ نُسَخ «الأوسط» كثيرٌ منها مغلوط لعدم اتصالها بالسَّماع، والمعروف أنه أخُوه، وقد قِيل: إن اسم أخيه المتوفى: يَسَار»([5]).

وقال الهيثميُّ على نُسَخ «الْمُعجم الأوسط» أثناء حديثه عليه في خطبة زوائده: «وقد جَمَعْتُه من نُسخة فِيها سقم، ثمَّ وجدت نُسخة غير كاملةً فاستعنت بها، وما وجدتُه من […]([6]) والنَّاقص كتبت له عندي رمزًا في ورقة خارجة عن هذا، فإن وجدت نسخة صحيحة كشفتُه إن شاء الله…»([7]).

ولكن الحافظ شمس الدِّين الذهبي (ت748هـ) كانت عنده نُسخة عَتِيقة بـ «معجم الطَّبراني الأوسط»، رجع إليها في ضبط اسم: (مقاتل بن دَوال دُوز)([8]).

وهذا العلَّامة عَلاء الدين مُغْلَطَاي (ت762هـ) كانت لديه مكتبة لا نظير لها في عصره، وقد تميَّز باقتناء أَنْدَرِ الكتب التي بخطوط العلماء أو عليها خَطُّهُم، ويحدِّد أسماء الخطَّاطِين، ويُنَبِّه على أهمية النُّسَخ بعبارات رائقة.

والعلامة مُغْلَطَاي كان يشتكي من النُّسخ الخَطِّيَّة التي وقف عليها من «كتاب الثِّقات» لأبي حاتم بن حِبان البستي (ت354هـ)، مع كونه وَقَعَ له ثلاث نُسخ من الكِتاب بخط الأعلام، منها: النُّسخة التي بخط الحافظ أبي إسحاق الصَّرِيفِيني (ت641هـ)([9])، والنُّسخة المصحَّحة التي بخط المحدِّث أحمد بن يونس بن أحمد بن بَركَة أبي الطَّاهر الإربلي (ت693هـ)([10]).

وقد وقفتُ على نُسخة من «الثِّقات» كانت في ملك العلامة مُغْلَطَاي، ومُطَرَّرَة بعشرات الفوائد التي كتبها بخطه، والنُّسخة بخط محمد بن محمد بن خضر الإربلي، وبها عشرات التراجم التي لا تُوجد في المطبوع، هذا بجانب ما يُوجَد فِيها من تصويبات للأخطاء التي حفل بها المطبوع؛ لأن عماده على نسخ مغلوطة للكتاب، وبها الكثير من التَّراجم التي يُقال بأنها مقحمة؛ فقد تفردت نُسخة أحمد الثَّالث بسبعمائة ترجمة منهم (430) ترجمة في طبقة التَّابعين؛ خلى منها تلخيص الذَّهبي الذي بخطه لطبقة التَّابعين من الثِّقات لابن حِبان.

ورغم وقُوف مُغْلَطَاي على هذه النُّسخ التي ظاهرها الصِّحة إلا أنه قال: «… يَحتاج إلى أن النَّاظر في كِتابه -يعني ثِقات ابن حِبان- يتثبَّت فِيه، فإنِي حرصتُ على أن أجده في كِتابه فلم أجده، ولا أستبعده، وإن كنتُ قد استظهرت بنسختي لعدم وجداننا من هذا الكتاب نُسخة صحيحة».

قلتُ: والكثير من كُتب ابن حِبَّان فُقِدَ في العصور المتقدِّمة، ولم يوجَد منه إلا الشيء اليسير، والنزر الحقير، فِيما قاله مسعود السِّجزي لأبي بكر الخطيب البغدادي([11]).

وغالِب كُتُب ابن حِبَّان تَحَمَّلها الحافظ علي بن عُمر الدَّارقطني (ت 385هـ) إجازةً مكاتبة من ابن حِبان، وانقطع اتصال السَّماع بها، وغير مطروقة في كتب الفهارس والأثبات والمشيخات، ولم أقف عليها إلا في ثبت متأخر تُروى إجازةً([12]).

ومن الكُتب التي انقطع اتصال سماع العلماء بها، وقِيل بأنه قليل الوجود «كتاب المُسْتدرك على الصَّحيحين» لأبي عبدالله الحاكم (ت405هـ)، قال السُّيوطي بأن: ««الْمُستدرك» قليل الوجود؛ ولذا لم يقع بالسَّماع، وإنما وقع بالإجازات»([13]).

قلتُ: والعلامة مُغْلَطَاي وقف على نسخة من «كتاب الْمُستدرك» عليها خط شيخ الإسلام أبي الفتح القُشَيْرِي، المعروف بابن دقيق العِيد (ت702هـ)([14]).

إلا أن مُغْلَطَاي نَصَّ على عدم وجود نُسخة جيدة من هذا الكتاب، فقال عقب التَّعليق على حديث العِرباض بن سارية: «… ولعله يكون قد سقط اسمه من «كتاب الْمُسْتدرك»؛ لعدم وجود نُسخة جيدة من هذا الكتاب…»([15]).

قلتُ: والكثير من نُسَخ «كتاب الْمُسْتدرك» مَغْلوط لعدم اتصالها بالسَّماع، ومن أجود نُسخ الكتاب وأقلها خطأ النُّسخة التي بخط المحدِّث محمد بن أبي القاسم الفَارقي المصري (ت761هـ)، وكان الفارقي كثير العناية بالحديث([16])، ولم يُخَلِّف بعده أقدم طلبًا منه([17]).

وقد فرغ من نَسْخِهَا سَلْخَ ذي الحجة سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة بالقاهرة الْمُعِزِّيَّة، وقابَلَها: الحسن بن محمد اللخمي على أصل صحيح فصح، وهي محفوظة في المكتبة الأزهرية برقم (6122 حديث)، 93211 رواق المغاربة.

ومن أَجَلِّ فوائد هذه النُّسخة أنه كُتِب على حاشية [ج3/271/ب] الحد الفاصل بين ما أملاه الحاكم من «المستدرك» وبين ما أُخِذَ عنه بالإجازة، ونَصُّهُ: «… إلى هنا انتهى الإملاء، ولم يقع السماع لِمَا بعده إلى تمام الكتاب لأحدٍ فيه، ثم تُوُفِّيَ الحاكم رضي الله عنه يوم الثلاثاء الثالث من صفر سنة خمس وأربعمائة».

ونقل البقاعي عن شيخه الحافظ ابن حجر ما نصه: «قال شيخنا: إنما وقعَ للحاكمِ التساهُلُ، إما لأنهُ سَوَّدَ الكتابَ لِيُنَقِّحَهُ، فأَعْجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، أو لغيرِ ذلك، قال: ومما يؤيِّدُ الأولَ أني وجدتُ في قريبِ نصف الجزء الثاني من تجزئةِ ستة مِن «المستدرك»: إلى هنا انتهى إملاءُ الحاكم. قال: وما عدا ذلك من الكتاب لا يوجَد عنه إلا بطريق الإجازة، فمن أكبر أصحابه وأكثر الناس له ملازَمة البيهقيُّ، وهو إذا ساقَ عنه من غير الْمُمْلَى شيئًا لا يذكره إلا بالإجازة»([18]).

وهذا السِّراج القزويني (ت750هـ) يروي «كتاب الخِلافيَّات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة» لأبي بكر البيهقي إجازةً عامةً إن لم تكن خاصةً([19])، ومُتْقِنُو المشايخ لا يَعْبَئُون بالإجازة العامة([20]).

ورغم المكانة العلمية التي يحظى بها الإمام البيهقي بين العلماء، وثَنَاء التَّاج السُّبكي (ت771هـ) على الكتاب:«وأمَّا كتاب الخلافيات فَلم يُسْبق إِلَى نَوعِه، وَلم يُصنَّف مثلُه وهُوَ طَريقَةٌ مُسْتَقلَّة حَدِيثِيَّة، لَا يَقدر علَيْهَا إِلَّا مُبرّزٌ فِي الفِقه والحَدِيث، قَيّمٌ بالنِّصوص»([21]). وقول ابن الْمُلَقّن (ت804هـ): «خِلافيات الحافظ أبي بكر البيهقي، ولم أَرَ مثلها، بل وَلَا صُنِّف»([22])، إلا أن الكتاب انقطع اتصال سماع العلماء له، وحُمِلَ بالإجازة العامة، وصارت نُسَخُهُ غايَةً في السَّقَمِ، فمثلًا نُسخة مكتبة سِليم آغا برقم (277، 278) من الكتاب يَشُوبُهَا كثير من التَّصحيف والتَّحريف والسَّقط.

ونسخة مكتبة محب الله الشَّاه السِّنْدِي أَبَانَ ناسِخُها عن رداءة النُّسخة التي نَقَلَ منها، فقال في لوحة [313 ب]: «… النُّسخة الخَطية مملوءة بالخطأ في العِبارة والكتابة، ولعلَّ بعض عباراتها متروكة، ولذا لم يُفْهَم معناه في مواضع كثيرة».

قلتُ: وقد حاولت جاهدًا في تحقيقي لـ «كتاب الخِلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة» للبيهقي أن يَخْرُجَ الكتاب خاليًا من التَّصحيفات والتَّحريفات والأسقاط، فقابلت الأحاديث مَتْنًا وسندًا على مُصَنَّفَات البيهقيِّ الأخرى كـ «السُّنن الكَبير»، و«معرفة السُّنن والآثار»، و«السُّنن الصَّغير»، وعلى المصادر الأصلية للمصنِّف مطبوعةً ومخطوطةً، فوفَّقَنِي الله تعالى ذِكْرُهُ إلى إخراج النَّص في أقرب صورة للصَّوَاب([23]). ورغم ما بذل من جهود في تدقيق نص «كتاب الخِلافيات» إلا أنه النَّص به العديد من التَّحريفات التي زاغ عنها البصر، فأثناء عملي في تحقيق «معرفة السُّنن والآثار» للبيهقي وقفتُ على أخطاء عديدة وقعت في تحقيقي لـ «كتاب الخِلافيات» ونَبَّهْتُ عليها في حَوَاشِي تحقيق «المعرفة»، ويسر اللهُ نشر هذه التَّصويبات لينتفع بها من له نُسخة من هذا التَّحقيق. والله الْمُوَفِّق.

([1]) «مشيخة سِراج الدين القزويني» إمام جامع الخلافة العَبَّاسية ببغداد (ص88، 89).

([2]) «الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السَّماع» القاضي عياض (192، 193).

([3]) «الجامع لأخلاق الراوي» الخطيب البغدادي (2/ 303).

([4]) «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (1/ 5).

([5]) «إتحاف الخيرة المهرة» البوصيري (3/ 369، 370).

([6]) ما بين المعقوفين بياض في نسخة أحمد الثالث من «مجمع البحرين» (ج1/ ق2 أ).

([7]) «مجمع البحرين في زوائد المعجمين» (1/ 49).

([8]) «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» (4/ 375).

([9]) «إكمال تهذيب الكمال» (5/ 72، 118).

([10]) «إكمال تهذيب الكمال» (3/ 74).

([11]) «الجامع لأخلاق الراوي» (2/ 304).

([12]) «البحر العميق في مرويات ابن الصِّديق» (2/ 371).

([13]) «صلة الخلف بموصول السلف» الرّوداني (ص 283).

([14]) «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي (8/ 308).

([15]) «الزهر الباسم في سير أبي القاسم r» (1/410).

([16]) قاله الفاسي في «ذيل التقييد» (1/ 209).

([17]) قاله تلميذه الزين العراقي، ونقله عنه ابن حجر في الدرر الكامنة (5/ 410).

([18]) «النُّكت الوفية بما في شرح الألفية» (1/ 141).

([19]) «مشيخة سِراج الدين القزويني» إمام جامع الخلافة العَبَّاسية ببغداد (ص511، 513).

([20]) «المجمع المؤسس» ابن حجر (1/ 78).

([21]) «طبقات الشافعية الكبرى» (4/ 9).

([22]) «البدر المنير» (1/ 287).

([23]) مقدمة تحقيقي لـ «كتاب الخلافيات» (1/ 15، 16).