(1) الأصول الحديثية بالمغرب الإسلامي؛ أصل أبي بكر ابن خير الإشبيلي (تـ:575هـ) ([1]) من «صحيح البخاري»

مقالات حديثية
بواسطة Admin منذ 6 سنوات

(1)

الأصول الحديثية بالمغرب الإسلامي 

أصل أبي بكر ابن خير الإشبيلي (تـ:575هـ) ([1]) من «صحيح البخاري»

د. نور الدين الحميدي


يكفي في بيان جلالة أصول الحافظ ابن خير عامةً، قولُ ابنِ الأبار عنه: “وكانت كتبه  -أي ابن خير – في غاية الصحة والإتقان، لكثرة ما عاناها، وعالج تصحيحها بحسن خطه، وجودة تقييده وضبطه، وفي ذلك قطع دهره وأنفق حياته، فلحق بالمتقدمين، وأربى على المتأخرين، وأدى ذلك إلى المغالاة فيها بعد وفاته، حتى بلغت أثمانها الغاية، ولم يكن له نظير في هذا الشأن “.([2])

وقبل التعرض لخبر هذا الأصل، أنبه على وهم وقع فيه شيخ شيوخنا العلامة محمد المنوني رحمه الله تعالى، وذلك عندما ظن أن أصلَ ابنِ خير الإشبيلي، هو أصل أبي ذر الهروي الذي اشتراه الأمير المرابطي ميمون بن ياسين من ابنه أبي مكتوم الهروي بمكة([3])، فقرأ نصَّ كلام الحافظ أبي الحسن الرُّعيني التالي: “وأمسك عليَّ حين القراءة أصلَ أبي بكر ابنِ خير – رواية أبي ذر – الذي بخط أبيه “([4]) على النحو التالي: “وأمسك عليَّ حين القراءة أصل أبي بكر ابن خير، رواية (ابن) أبي ذر، الذي بخط أبيه”([5])، فالعلامة المنوني رحمه الله ظن أن الضمير في (أبيه) يعود على (أبي ذر) مما اضطره لزيادة لفظة (ابن) حتى يستقيم له الكلام، ولكن كل هذا وهم يقيم أَوَده ما أذكره من خبر هذا الأصل، واتبعه في هذا الوهم أستاذنا الدكتور محمد بنشريفة([6]) شفاه الله وغيره من الدارسين.

أخبر الحافظ ابنُ رُشيد عن نشأة هذا الأصل، فقال: “وهذا الأصل –  إشارة لأصل ابن منظور – جبره الله من الأصول التي اعتمدها ضابط الأندلسيين في وقته أبو بكر ابن خير، وعارض كتابه الحافل به الذي بخط أبيه خير رحمهما الله”.([7])

فهذا الأصل من انتساخ والد ابن خير، وفي هذا لمحة تربوية تبدي مدى حرص الآباء على توجيه أبنائهم للعلم وطلبه بانتساخ الكتب لهم، وهذه البذرة التي غرسها خير لابنه محمد، ستتفرع عن شجرة وافرة الظلال، جنية الثمار – كما سنقف عليه -، ووَصْفُ ابنِ رُشيد لأصل ابن خير بـ”الحافل” يدل على مقامه في الصحة والضبط وبيان فروق الأصول المعتمدة، إذ ابنُ خير قابَل نسختَه على أصول عديدة كما أفاده كلامُ ابنِ رُشيد، ويُعزز ابنُ رُشيد احتفاءه بأصل ابنِ خير بمدح وثناء يبلغ الغاية، فيقول: “وكان السماع في الأصل العتيق الذي يعز نظيره، وهو أصل الراوية المحدث الضابط المتقن أبي بكر ابن خير الذي بخط أبيه رحمهما الله، ومعاناة أبي بكر بالأصل العتيق، أصل أبي عبد الله ابن منظور القيسي، الذي عليه اعتماد الأندلسيين، وأتقنه الضابط أبو بكر ابنُ خير إتقانا لا مزيد عليه، وقابله بالأصل المذكور مرات”.([8])

فهذا الأصل، أحاطه صاحبه من العناية والاهتمام بما جعله حريا بالاقتناء والحيازة، حيث لم يمكث بموطن نشأته إشبيلية طويلا، حتى غُرِّبَ عنها إلى سبتة من بَرِّ العُدوة، حيث اغتنمه الحافظ المتقن أبو الحسن الشاري (تـ:649هـ) ([9]) عِلْقًا نفيسا ومِلكا ثمينا ضمن خزانته العامرة، وهو الذي وصفه ابنُ الأبار بقوله: “واقتنى من الدفاتر والدواوين شيئا عظيما ونافس فيها وغالى في أثمانها وربما رحل في ذلك حتى حصل منها علي ما أعجز أهل بلده”([10])، وعنه قال ابنُ رشيد: “وعُنيَ بطريقة الرواية واقتناء الأعلاق الثِّمان، ونافس فيها، وبذل فيها الأثمان ما يَعْجَبُ منه ذو الأموال الطائلة، وكانت له في ذلك همة عالية حتى ربما رحل في تحصيلها فيما بلغنا، وكثيرا ما تُلفى الكتب النفيسة من كل فن بخطه عليها بالمِلك والمطالعة، وحبَّس منها جملة وافرة نافعة بالمدرسة التي ابتناها بسبتة “.([11])

نصَّ على تملك أبي الحسن الشاريِّ لهذا الأصل، تلميذه أبو الحسن الرُّعيني، فقال: ” قرأت عليه أي أبي الحسن الشاري بالجامع الأعظم بسبتة كتاب الجامع الصحيح للبخاري،…، وأمسك عليَّ حين القراءة أصل أبي بكر ابن خير – رواية أبي ذر – بخط أبيه رحمهما الله، وبمعاناة أبي بكر وتصحيحه “.([12])

ونصَّ على ذلك الحافظ ابنُ رُشيد، فقال: “سمع عليه جميع الجامع الصحيح للبخاري بقراءة الكاتب أبي الحسن الرُّعيني،….، وكان السماع في الأصل العتيق الذي يعز نظيره، وهو أصل أبي بكر ابن خير “.([13])

ثم انتقل هذا الأصل – على الأرجح – إلى مِلك الحافظ ابنِ رُشيد السبتي، والذي سيعتمده في السماع على شيخه أبي فارس الجزيري السبتي (تـ:701هـ)، والذي احتفى بإسناده في الصحيح بتأليف مستقل هو «إفادة النصيح»، ولم أجزم بتملك ابنِ رُشيد السبتي للأصل، لأن عبارته غير صريحة في ذلك، فقد قال: “وفيه كان سماعي وسماع بني محمد – هداه الله – مع الجماعة على شيخنا الفقيه الفاضل العدل أبي فارس “.([14])

وقال: “..، وفي هذا الأصل نفسه كان سماعنا على الشيخ أبي فارس وفيه كانت القراءة”.([15])

فلعله استعار الأصلَ من خزانة أبي الحسن الشاريِّ أو كان السماع بالخزانة حيث حبَّس الشاريُّ أصولَه، فمسألة انتقالِ الأصلِ لابن رُشيد السبتيِّ غير مقطوع بها، وهو ممن اشْتُهِرَ بحيازة نفائس الأصول الحديثية.

ومما يُحزن له أن هذا الأصل، لا ذكر له في كتب الفهارس والمعاجم والحديث بعد الحافظ ابنِ رُشيد، ولا ندري ماذا صنعت به النكبات التي حلت بسبتة، وما جرى عليه من تصاريف الأيام وغِيَر الزمن، ولا ندري عن نسخة خطية متفرعة عن هذا الأصل، تنبئ بشيء من جودة ضبطه ودقة إتقانه، وهو من الأصول التي فاتت شيخ مشايخنا العلامة محمد المنوني – رحمه الله – ذكرها في بحثه النفيس عن روايات البخاري وأصوله بالمغرب([16])، وهو على شرطه، وتبقى الإحاطة لله تعالى.

مما يرجح غياب هذا الأصل عند متأخري العلماء بالمغرب، أن اعتمادهم كان على أصل ابنِ سعادة المرسي المتفرع عن أصل أبي علي الصدفي، ووازنوا بينه وبين أصل القاضي عياض في مراتب الصحة والضبط، ولم أقف على من ذكر أصل ابن خير أو أشار إليه، ولكن وصفَ الحافظ ابنِ رُشيد السبتي – وهو البصير الخبير بالأصول المغربية الحديثية  – لأصل ابن خير دالٌّ على اعتلائه سَنام الإحكام والإتقان نسخا وتصحيحا دون سواه من الأصول، وهو الحريُّ بالتنويه والإشادة، وأن يُحَلَّى بالثناء الأحفل الأكمل وزيادة.


([1]) تُنظر ترجمته في (التكملة،2/49) لابن الأبار.

([2]) (التكملة،2/50) لابن الأبار.

([3]) ذكر خبر هذا الأصل الحافظ أبو طاهر السِّلفي في (الوجيز في ذكر المجاز والمجيز،ص:124).

([4]) (برنامج،ص:75) أبي الحسن الرُّعيني.

([5]) (قبس من عطاء المخطوط المغربي،1/98)، مع أن الشيخ رحمه الله، وقف على إفادة النصيح، وكتب منه تذييلات نشرها في مجلة دعوة الحق، يُنظر (قبس من عطاء المخطوط المغربي،1/121-125)، ولم يتفطن إلى ما نبهت عليه من وهم.

([6]) يُنظر كتابه (الأمير المرابطي ميمون بن ياسين حياته وحجه) نشر عن مجلة دعوة الحق، وقرَّر ذلك في تحقيقه لـ(الذيل والتكملة – السفر الثامن -،ص:405) لابن عبد الملك المراكشي.

([7]) (إفادة النصيح،ص:49-50).

([8]) (إفادة النصيح،ص:109).

([9]) تُنظر ترجمته في (التكملة،3/251).

([10]) (التكملة،3/252).

([11]) (إفادة النصيح،ص:105).

([12]) (برنامجه،ص:75).

([13]) (إفادة النصيح،ص:109) باختصار.

([14]) (إفادة النصيح،ص:49-50).

([15]) (إفادة النصيح،ص:109).

([16]) نشره بعنوان (صحيح الإمام البخاري في الدراسات المغربية، من خلال رواته الأولين، ورواياته، وأصوله)، نُشر ضمن مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج2، مجلد49، سنة: 1974م، وذيَّل عليه بذيل نشره بمجلة دعوة الحق، س17، ع2-3 (مزدوج) سنة: 1975م، وهذه المقالات وغيرها ضمها كتاب (قبس من عطاء المخطوط المغربي).