الحافظ أبو محمد الدروقي وكتابه في تسمية شيوخ الترمذي

مقالات حديثية
بواسطة Admin منذ 6 سنوات

مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: فقد بَرَعَ علماء الأندلس في علم الحديث ورجاله، وأخدوا زمام المبادرة للتَّأليف فيه، فخلَّفُوا لنا تراثًا عظيما، ومؤلفات نفيسة، تخدم علم الحديث بمختلف فنونه، ومما يؤسف له أن كثيـرًا من هذه المؤلفات فُقِدَتْ على إثر المآسي التـي حلَّتْ بالمسلمين هناك، خاصَّة بعد سقوط قرطبة في أيدي الصَّليبيين، وتعمُّد هؤلاء تخريب خزائن الكتب، وإتلافها بالإحراق والإغراق، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
فكم من عالمٍ متقنٍ، ومحدِّثٍ بارعٍ، نُسِيَ بسبب فقدان كتبِهِ، وخَمُلَ ذِكْرُهُ بسبب شُحِّ الأخبار في سيرته، وقلَّة المعلومات عن حياته؟ وإنِّي أحسبُ أنَّ الحافظ (أبا محمد الدَّرَوْقي الأُطْرُوش) واحدٌ منهم، فقد كان مقدَّما على أهل عصره في معرفة الحديث وتميِّيـزه، عارفًا بعلل الحديث وأسماء رجاله، ألَّف في ذلك كتبًا تدلُّ على براعته وإتقانه، إلا أنَّه اليوم بين المتخصصين مغمورٌ غيـر مشهور.
من أجل هذا حاولتُ في هذه السطور نفض الغبار عن صفحات حياة هذا المحدِّث البارع، وتشنيف الأسماع بما بقي من أخبار هذا الحافظ المجوِّد، معرفًا بجهوده وتراثه، مسلِّطًا الضوء على أشهر مؤلَّفاته، قصد تنبيه الباحثين على أهمية تراث الأسلاف الأوّلين، لِيَجِدُّوا في البحث والتنقيب، على تراث هذا الحافظ الأريب، إحياءً لذكرِهِ ووفاءً لجهوده في حفظ السنَّة النبوية وخدمتها.

[ المبحث الأوَّل: ترجمة الحافظِ أبي محمد الدَّرَوْقِي]
اسمه ونسبه
هو: عبدُ العزيزِ بن محمَّد بن سَعِيد بن مُعَاوية بن داود الأنصارِيُّ الدَّرَوْقِيُّ الأندلسيُّ، يُكْنَى: (أبا محمد، وأبا الأصبَغ). ويعرف بـ :(الدَّرَوْقِي، الأُطْرُوش).
أمَّا (الدَّرَوْقِي) فنسبة إلى (دَرَوْقَة) وهي قرية من أعمال سرقسطة بالثغر الأعلى من شرق الأندلس، بينها وبين (قلعة أيوب) ثمانية عشر ميلاً، وبينها وبين سرقسطة خمسون ميلاً. ويخطئ بعض من يتـرجم له فيقول: (الدَوْرَقِيُّ) بتقديم الواو على الراء، وهو تصحيف.
وأمَّا (الأُطْرُوشُ)، فلقبٌ يطلق على من بِأُذُنِهِ شيءٌ من الصمم، قال السمعاني: “بضمِّ الألف، وسكون الطاء المهملة، وضم الراء، وفي آخرها الشين المعجمة، هذه اللفظة لمن بِأُذُنِهِ أدنى صَمَم، واشتهر بها جماعة”.
أصله من مدينة (دَرَوْقة) في سرقسطة، ثم سكن (قرطبة) دار العلوم، وأخذ عن شيوخها المبرَّزِين على كثرتهم في ذلك الوقت.

شيوخه
عاش المصنف في مرحلة تعجُّ بعلماء الحديث المتقنين، خاصَّة وأنَّهُ استوطن قرطبة دار العلوم، فسمع من شيوخ عِدَّه، أبرزهم :

1- أَبُو بَكْرٍ ابن مفوِّز، مُحَمَّدُ بنُ حيدرَةَ، المَعَافِرِيُّ الشاطبي ( 5.5 هـ).
2- أبو عبد الله الخولاني. أحمد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبيّ ( 508 هـ).
3- أبو علي، الحسين بن محمد بن فِيرَّة بن حيُّون بن سُكَّرَة، الصدفي.( 514 هـ).
4- أبو بحر، سفيان بن العاص بن أحمد، الأسدي القرطبي. ( 520 هـ).
5- أبو محمد، عبد الرحمن بن محمد بن عتَّاب. القرطبيُّ.( 520 هـ).

تلاميذه
لا شكَّ أنَّ الآخذين عن هذا المحدِّث المتقن كُثُـٌر، لكن كتب التـراجم شَـحَّتْ بذكر أخباره، فلم أقف فيها إلا على ذكر تلميذين له، هما:
1-اِبْنُهُ: محمَّد بن عبد العزيز بن محمد، أبو القاسم الدَّرَوْقِي، كان من أهل الحفظ للحديث، شارك والدَهُ في الأخذ عن الشيوخ، وتوفي سنة (520هـ)، قبل أبيه بنحو أربع سنين.
2- الحافظ أبو القاسم، خَلَف بْن عَبْد الملك بْن مَسْعُود بْن مُوسَى بْن بَشْكُوال (578هـ) حيث قال: “سَمِعْنَا منه، وأجاز لنا بلفظه ما رواه وجمعه، وكان حرِجَ الصدر، نكد الخلق”.

ثناء العلماء عليه
قال تلميذه ابن بشكوال: “كان معتنيًا بالحديث وكَتْبِه وتقيِّيده وجمْعِهِ. وكان حافظًا له، عارفًا بعلَلِه وطرقِهِ، وصحيحِهِ وسقيمِهِ، وأسماء رجاله ونَقَلَتِهِ، مقدَّما في جميع ذلك على أهل وقْتِهِ. وجمع كتبًا في معنى ذلك كلِّهِ”.
وقال ابن الأبَّار: “كان مقدَّمًا على أهل وقته في حفظ الحديث والبصر به، والمعرفة بعلله والتميِّيز لرجاله، وله مجموعات في معنى ذلك كلِّه”.
قلت: الظاهر أنه جمع بين علمه بالحديث وبين التفقه في الفروع، فقد كان فقيهًا وذكروا أنَّ ابنه محمد تفقَّهَ عليه، قال: أبو عبد الله المراكشي: ” تفَقَّه على أَبيه”.

سماعُهُ لِكُتُبِ الحديث
اعتنـى (أبو محمد الدَّرَوْقِي) بسماع كتب الحديث و روايتها كما هي عادة المحدِّثين بالأندلس، ولكن لم يصلنا خبـر مسموعاته وهي بلا شكٍّ كثيـرة، وسأذكر هنا ما وقفتُ عليه:
1- (موطأ مالك بن أنس): سمع الدَّرَوْقِيُّ موطأ الإمام مالك -مع ابنه محمد-، من أبي عبد الله الخولاني، قال ابن الأبَّار- في ترجمة ابنه محمد- : ” روى مع أَبِيه -عبد الْعَزِيز- عَنْ أبي عَبْد اللَّه الْخَولَانِيّ قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأ”.
2- (رياضَةُ المتعلِّمين لأبي نعيم الأصبهاني) قال ابن الأبَّار في معجم أصحاب الصدفي: “سمع من أبي علي رياضَةُ المتعلِّمين لأبي نعيم”.

وفاته
قال ابن بشكوال: توفي -رحمه الله- في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وخمسمائة (524هـ).

مؤلفاته
سبق معنا أنَّ ابن بشكوال وابن الأبَّار أخبـرا أنَّ أبا محمد الدروقي كانت له عناية فائقة بعلم الحديث وعلله ورجاله، وأنَّه جمع في ذلك مؤلفات، لكن لم يصلنا من خبـر عنها إلا كتابين:
1- (تسميةُ شيوخ أبي عيسى التّرمذي في مصنّفه)، سيأتي الكلام عليه.
2- (رجال النَّسائي).
قلتُ: أمَّا الكتاب الأوَّل فقد ذكره ابن خيِّـر وابن الأبَّار، وأمَّا الثاني فقد انفرد بذكره الكتاني، فقال: ” وكذا ( رجال الترمذي ) و ( رجال النسائي ) لجماعة من المغاربة منهم : الحافظ ( أبو محمد الدورقي ) فإن له في رجال كلٍّ منهما كتابًا مفردًا”.

[ المبحث الثاني: دراسة كتاب «تسمية شيوخ الترمذي» لأبي محمد الدَّرَوْقِي]
حاز المغاربة قصب السبق للتأليف في شيوخ الإمام الترمذي الذين حدَّث عنهم في جامعه، فمن حسنات أبي محمَّد الدَّرَوْقِي اهتداؤه مبكرًا للتأليف في موضوع بكر، فألَّف كتابا في تسمية شيوخ الإمام الترمذي صاحب الجامع (279هـ)، على غرار ما فعله أبو علي الجياني (498هـ) في كتابه «تسمية شيوخ أبي داود».
قال محمد بن جعفر الكتاني: ” وكذا ( رجال الترمذي ) و ( رجال النسائي ) لجماعة من المغاربة منهم : الحافظ ( أبو محمد الدورقي ) فإنَّ له في رجال كل منهما كتابا مفردا”.
قلتُ: ألَّف الحافظ أبو محمد ابن حوط الله الأندلسي (612هـ) كتابًا في ذكر شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي نزع فيه منـزع أبي نصر الكلاباذي لكن لم يكمله.
وألَّف ابن خلفون (636هـ): كذلك: كتابَّا سمَّاه «شيوخ الترمذي»، في مجلَّد متوسط ذكره المراكشي في تكملته.
إضافة إلى كتاب: (زهرة المتعلِّمين في أسماء مشاهير المحدثين)، لمؤلِّفٍ مغربي مجهول قال ابن حجر “وَرِجَال الصَّحِيحَيْنِ وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي لبَعض المغاربة سَمَّاهُ «الزهرة» وَقد ذكر عدَّة مَا لكل مِنْهُم عِنْد من أخرج لَهُ وَأَظنهُ اقْتصر فِيهِ على شيوخهم”.

اسمُ كتاب الدَّرَوْقِي في شيوخ الترمذي
ذكره ابن خير في فهرسته، الاسم الكامل لكتاب الدَّروقي في شيوخ الترمذي، فقال:
“جزءٌ فيه: (تسميةُ شيوخِ أبي عيسى التّرمذيِّ في مصنّفِهِ)؛ تأليف: أبي محمد، عبد العزيز بن محمد بن معاوية الأنصاري الدَّرَوْقِي الأطروش-رحمه الله-،حدّثني به الشّيخ الرّاوية أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود الأنصاري، عنه”.
وسمَّاه ابن الأبَّار : ( تسميةُ رجال الترمذي)، والكتَّاني (رجال الترمذي) وهاتان التسميتان على سبيل الاختصار كما هي عادة العلماء، وما ذكره ابن خيِّـر أضبطُ؛ لأنه يعتني بضبط أسماء الكتب كاملة، فالكتاب موضوع في شيوخ الترمذي في جامعه، وليس في جميع رجال أسانيد الترمذي.

أهميَّة هذا الكتاب في بابه
تكمنُ أهمية هذا الكتاب في كونه تناول شيوخ الإمام الترمذي في جامعه بالدراسة، فهو كتاب لا يستغني عنه الدارس لجامع الترمذي خاصَّة في معرفة شيوخه المهملين، أو المذكورين بكناهم، و هكذا معرفة شيوخ الترمذي الذين أكثـر عنهم، وطريقته في انتقائهم، وانتقاء بعض الأحاديث عن الضعفاء منهم، وهذا الموضوع بالذَّات لا يُوجد فيه مؤلَّف مطبوع مستقل.

نصٌ منقول من كتابه المفقود في شيوخ الترمذي
نقل ابن الأبَّار نصًّا نادرا من كتاب أبي محمد الدروقي في تسمية شيوخ الترمذي، أثناء الكلام عن شيخ للترمذي اسمه (عيسى بن أحمد)، قال الحافظ الدَّرَوْقِي الأطروش: “عيسى بن أحمد بن وردان، أبا يحيـى البلخي، كذا سمَّاه أبو أحمد الحاكم في الكنـى له، في باب أبي يحيى، أخبرني به أبو علي الصدفي”.
قلتُ: (عيسى بن أحمد) من شيوخ الترمذي روى عنه في موضعين من جامعه برقم: (1413) (2077). يقول في كليهما: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ.
والنصُّ المنقول عن أبي أحمد الحاكم في كتابه «الكنـى»، غيـر موجود في النسخة المطبوعة لفقدان الأجزاء الأخيرة من النسخ المخطوطة للكتاب.

حكاية منقولة بخطِّ أبي محمد الدَّرَوْقِي
قال ابن الأبَّار: “وقرأتُ بخطِّ ابن بشكوال -وهو من روايته- أنَّه قرأ بخطِّه: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبي -رحمه الله- عادتُهُ استقى الماء لنفسه وقت طهارته فإذا ارتفع الدلو وهو ملآن، قال: الحمد الله، فقلت يا أَبَةِ، أيُّ شيء الفائدة في ذا؟ فقال: يا بُنـَيِّ، سمعتُ الله تعالى يقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَاتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾[الملك: 30]”.

نتائجٌ وتوصياتٌ
– الحافظ أبو محمد عبد العزيز بن محمد الدَّرَوْقي (524هـ) محدِّث بارع، وناقد متميـز، فُقِدَتْ مصنَّفاته، فَخَمُلَ ذكره، وقد كان من أبصر الناس في زمنه بتمييـز الصحيح من الضعيف.
– اهتدى الحافظ أبو محمد الدَّرَوْقِي إلى التأليف في جمع شيوخ الإمام الترمذي في جامعه، وهو موضوع بكر ألَّفَ فيه جماعة من المغاربة، ولعلَّ كتابه : «تسمية شيوخ أبي عيسى التّرمذي في مصنّفه» من أوائل ما ألِّف في ذلك.
– يوصي الباحث بالتفتيش عن تراث هذا العالم البصير والحافظ المجوِّد، خاصَّة كتابه الذي اشتهر به «تسمية شيوخ أبي عيسى التّرمذي في مصنّفه» فلعلَّه في مكانٍ ما.
– كما يوصي الباحث بِتَبَنِّـي أحد المعاصرين لفكرة كتاب أبي محمد الدَّرَوْقِي، وذلك بجمع شيوخ الترمذي في جامعه وبيان عدد ما لكل واحدٍ منهم من حديث، مركزًا على منهج الترمذي في الرواية عنهم، فإنَّه بحث فريد لم يطرق، وهو جدير بالاعتناء.

وصلَّى الله على نبيِّنَا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


وكتبه: راجيَ عفو ربِّهِ، حامدًا ومصلِّيًا
د. نبيل بن أحمد بَلْهِــي
صبيحة الثالث من جمادى الأولى،
سنة تسع وثلاثين، وأربع مائة وألف.